admin المدير العام
الدولة : جمهورية مصر العربية(امــــ الدنيا) عدد المساهمات : 4099 تاريخ التسجيل : 17/11/2009 العمر : 28 تاريخ الميلاد : 01/04/1996
| موضوع: صنع الله إبراهيم يجسد الجليد الإثنين 30 مايو - 7:54 | |
| يتميز الروائي المصري الكبير صنع الله ابراهيم بأسلوبه التوثيقي الصارم الذي ينحت نموذجا تقنيا ولغويا متفردا يجعلك تتعرف علي كتابته منذ السطور الأولي, فيقوم بدور المصور المحترف
عندما يتحول القلم في يده إلي كاميرا صغيرة تبرع في إنتاج لقطات مركزة مركبة, علي مسافات متساوية, يندر أن تهتز أو تغيم, أو تخرج عن نمطها الذي يخرج شريطا متعاقبا شديد الدقة في ترتيب التفاصيل, وتلوين الأحاديث, وضبط الإشارات الأيديولوجية والحيوية والمتكررة. بإيقاع موزون, يحتفي أولا بالجسد وحاجاته الغريزية في إطار حسي صريح, بينما تأتي الحكايات والحوارات وشبكة العلاقات القصيرة المدي لتصنع خلفية متواضعة مع المشهد الحسي العارم. السؤال الأول الذي يطرحه هذا الأسلوب المادي في التمثيل الجمالي للحياة هو مدي استلابه لحرية المبدع ذاته وقدرته علي كسر الرتابة المهيمنة علي مشاهده المتكررة, بحثا عن التنويع الخلاق للتقنيات الجديدة أو خروجا علي نمطية إعادة إنتاج الذات في النموذج المتكرر. ومع أنني في بداية رصدي لهذا الأسلوب التوثيقي منذ عقدين من الزمان قد قابلته بحفاوة نقدية أخشي اليوم أن يكون قد تجمد في أوضاعه التعبيرية والتصويرية حتي بلغ درجة الجليد وهو للمفارقة ـ عنوان آخر روايات صنع الله المثيرة للتأمل والاهتمام, لكن الجليد هنا كما كتب بالروسية كناية رامزة للحياة السوفييتية في مطلع عقد السبعينيات, قبل أن تنشق وتذوب وتنهار في أضخم سقوط أيديولوجي شهده التاريخ المعاصر. يرصده كاتبنا من منظور مرهف محكم, لطالب دكتوراه مصري, لم نعرف تخصصه الدقيق, يقيم في بيت الطلاب في موسكو, ويكتب ما يشبه يوميات بليدة, لكن بذكاء إبداعي ملحوظ, فكأنه يمشي في قيد حديدي وقد, وألقي سمعه لما يتم التلفظ به في ردهات المسكن الكئيب, وعلي سرره القاتمة الملوثة دائما ببقع الطعام والنبيذ والفراش. ومع أن الكاتب يحرص علي تسجيل زمن كتابته للرواية في مصر الجديدة في ديسمبر2010 م, أي منذ عدة شهور فحسب, فهو يسجل أيضا تاريخ وقائعها في موسكو عام1973 م, مما يجعلنا نتوقع أن نري فيها ولو صورة جانبية لمشهد ما قبل ملحمة يوليو73 وما سبقها من طرد الخبراء الروس وأعقبها من تداعيات الصراع, لكننا لا نلبث ان نغرق معه في دومات صغيرة لحياة يومية غبية, يستهلها بوصف مسرح الأحداث والشخوص في الفقرة الأولي قائلا: ظهرت القومندانة قرب الظهر علي باب الحجرة بوجهها المستدير المتجهم الذي يجلله شعر رمادي, ملأت فتحته بجسدها البدين, قالت إنها ستضم إلينا طالبا روسيا. قلت لها إن هناك ثلاثة أسرة فقط فأشارت إلي واحد مفكوك وملقي فوق الدولاب. قلت سني35 سنة ولا أحتمل التكدس والضجة, ثم إني مفروض أن أقيم في غرفة مفردة كبقية طلاب الدكتوراه. نظرت إلي برهة كأنما تقيس حجمي الضئيل, وما إذا كنت أستحق فعلا غرفة كاملة. قالت: تضاريس( رفيق) شكري, لادنا( حسنا) ستبقون ثلاثة كما أنتم. أصلح ماريو البرازيلي بعد انصرافها من وضع تقويم العام1973 المثبت علي الحائط قرب الباب,.. قال وهو يعبث بالحلق المدلي من إحدي أذنيه إنهم يحرصون علي وضع طالب روسي مع الأجانب لينقل أخبارهم. يقدم هذا النمط من الكتابة التسجيلية ملخص المشهد مدمجا الحوار في السرد علي طريقة السيناريو الذي يستحضر المكان والزمان وهيئة الأشخاص وأعمارهم ولون ملابسهم دون عناية بذواكرهم أو ماضيهم, وكأنهم يولدون فجأة أمام كاميرا التصوير التي لا تقوي في اللحظة ذاتها علي استرجاع شيء. وعلي القارئ أن يشحذ ذاكرته ويربط بين اسم الرفيق شكري وأبطال روايات صنع الله السابقين من ملفاتها المخزونة في وعيه دون جدوي عملية. اللوحات السردية تبدو رواية الجليد وكأنها مجموعة لوحات معلقة علي الحائط, يبلغ تعدادها126 لوحة بعدد الأرقام المثبتة عليها, مع قطع خيوط الارتباط بالماضي أو العودة إليه; حيث تصر علي مجافاة الطبيعة التاريخية للكائن البشري. يوقف المؤلف تقريبا ذواكر الأشخاص ويعطل ذاكرة النص ذاته, اكتفاء برصد سطح المشاهد والحركات مع استبعاد إضاءة الأسباب البعيدة أو توقع النتائج الأخيرة. وهنا يتعين علي القارئ أن يبني وحدة خيمة المتخيل الكلي للرواية, دون أن يعينه النص بمؤشرات رابطة أو علائق عضوية بين التفاصيل الصغيرة المتتالية, وربما لو افتقدت اللوحة علي مشهد محدد لاستطاع أن يملأ ثقوب الوعي بمساحته وألوانه وتشكيلاته, لكنها تحتوي علي فسيفساء دقيقة من عشرات الأفعال والحركات والأوصاف المدمجة بأسلوب حواري غير مباشر, نلهث في متابعته ونجتهد في تكوين إطار كلي له. مع حرصه علي إعطائنا صدمات متتالية بمشاهد لا يمكن أن يخلو منها جاليري الفنون التشكيلية أو تتفاداها السينما أو الرواية الحديثة, وبوسعنا أن نتوقف عند مشهدين قصيرين لنتعرف علي هذا الأسلوب التسجيلي المحايد: في الخامسة وفدت مادلين بعد ان تركت بطاقة هويتها لدي الحارسة, كانت برازيلية في منتصف العشرينيات, دقيقة الحجم سوداء الشعر أسنانها العلوية بارزة بعض الشيء. وكنت قد تعرفت بها وماريو أثناء دراسة اللغة, احتضنتها وأحضرت إبريق الشاي من المطبخ. أرتني في انفعال اسطوانة روبرتو كارلوس البرازيلي الذي يغني بالبرتغالية, وأهدتني عطرا رجاليا رشاشا. العبور من ثقب ابرة كيف يعرف شكري أنباء أكتوبر وما هو رد فعله إزاءها ؟ سؤال يكشف بدوره عن مدي ضيق هذا المنظور التسجيلي الذي يتحول إلي ثقب إبرة ينفذ منه خيط الأحداث. لنقرأ في الفقرة79 من رواية الجليد: صعدت إلي الغرفة فوجدت ورقة من زويا عليها رسم فتاة وتحتها كلمة تحياتي, نزلت مرة إخري إلي غرفة لطفي. إذاعة القاهرة تذيع مارشات عسكرية, محطة عربية لم نتبين مصدرها تقول إن مصر هي التي بدأت القتال. أحسسنا بالذهول والخوف من تكرار مأساة67, تذكرت أغاني ذلك الوقت: يا بو خالد يا حبيب: بكرة ندخل تل أبيب, وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ, كيف يمكن أن نكون نحن البادئين بالهجوم. بحثنا عن راديو الحرية الأمريكي بين14 و16 علي الموجة المتوسطة لم نتمكن من سماع شيء بسبب التشويش المستمر عليه. ثم التقطنا البيان العسكري الذي أعلن نجاح عبور القناة في الساعة الثانية ظهرا. سقط خط بارليف الذي تكلف228 مليون دولار, كان صوت المذيع رصينا هادئا علي عكس بيانات67 الهستيرية, قال لطفي: شهر رمضان كريم, قالت زوجته: احنا جدعان, قال حسونة النوبي: الرجل عملها, مصر تحارب دون معونة سوفييتية, وبقيادة الرئيس المؤمن المعادي للإلحاد, جاءت زويا وهكذا تندرج أخبار عبور أكتوبر في سياق الشريط المتكرر لحركة الراوي في علاقاته برفاقه ورفيقاته في المسكن الجامعي, دون أن تستحق في وعيه بداية مستقلة أو نهاية بعيدة عنهم. فزويا التي تعشق زميله الألماني, ويبدو انه مثلي النزعة, تتحرش بالراوي بالرسم قبل أن يبحث عن مصدر الأخبار في الإذاعات العالمية, وهي ذاتها التي يشرب معها نخب العبور في السطور الأخيرة. ليست هناك بؤرة تتكثف عندها الأحداث ولا ذروة درامية تصعد إليها المواقف في احتدامها المتنامي, بل هو سرد مسطح مثل الفسيفساء التي تتبدل ألوانها وتكرر نماذجها ولا تعرف لها رأسا من ذنب. بوسعك أن تبدأ قراءة الرواية من أية نقطة تلحق بها, أو تنتهي عند أية جملة دون ان يفقد النص سوي حلقات عديدة, فليس له حدود حاسمة تسور بنيته الكلية. لا بد أن نعترف لصنع الله ابراهيم بأستاذيته في توظيف هذا الأسلوب المتفرد, لكننا نتمني عليه أن يجدد فيه وأن يرفع سقف نصه لتتسع رؤيته ويخرج من ثقب الإبرة ليستشرف فضاء الكون, ويجوب الآفاق التي يجدر بها أن تتجسد في منظوره العريض. | |
|