هذا اللقاء نشرته مجلة المستقبل العدد 314 في 26 فبراير من عام 1983 (أي قبل
26 عام من الآن)
وهو من إعداد الكاتب المعاصر والصحافي المتميز : رياض نجيب الريس .
حيث كان يستفسر فيه من الإمام علي (ع) عن شؤون معاصرة في حياتنا اليومية وشغلت بال الجميع ..
وقد مهد لموضوعه بمقدمة نفسية وتاريخية , اجتذبت الكثيرين من مفكري أوروبا واسيا وقتها .
حتى إن أسئلة مختلفة من وزراء إعلام عرب وردت للمجلة حول هذا اللقاء الصحفي الأكثر من رائع ..
وهذا هو نص اللقاء كاملاً :
في زمن الأبواب المغلقة , ليس أمام الصحافي خيارات كثيرة . وفي زمن البحث عن طريق امن وسط ظلمة هذه الأيام , ليس هناك من يجرؤ أن بتباسط مع صحافي عن مدلولات اليوم طموحا للوصول إلى معالم الغد داخل هذا الزمن العربي الرديء , وفي أشهر التمزق الذي عاشه المواطن العربي منذ الغزو الإسرائيلي للبنان , وسقوط الأمة العربية من محيطها إلى خليجها , باعترافها ومن دون اعترافها , تحت ظلال" السلام الإسرائيلي " , لم أجد أحدا اعرفه في العالم فأطرق بابه لأسأله عن الذي يجري , ولماذا جرى وكيف يمكن أن يقف؟ صار اليأس كلمة نكررها صباح أو مساء كل نهار.
لذا رحت ابحث عمن يقول لي شيئا. قلت لنفسي : ليس في هذا العصر من هو على استعداد لان يمد رأسه من أية كوة مهما صغرت . حاولت أن اطرق بابا أساسيا من أبواب المعرفة , لعل صاحبه يجيب السائل الحيران . وقررت أن ازور الإمام علي بن أبي طالب (ع) خليفة رسول الله وأمير المؤمنين . ولم يسبق لي أن عرفت علي بن أبي طالب من قبل . كانت معرفتي به سطحية تاريخية , كمعرفة المئات من المسلمين أمثالي . فكان لابد أن اطرق كتاب السيد الشريف الرضي ليقودني إلى باب علي بن أبي طالب ويفتحه لي في ( نهج البلاغة) وهو الذي اختاره من كلام أمير المؤمنين (ع).
وفتح السيد الشريف الرضي الباب في (نهج البلاغة) على مصراعيه , وكان هذا الباب بالنسبة لي في ساعات الظلمة الكثيرة التي مرت علينا : نورا ساطعا . ومن أنقاض الذل الذي تمسحنا فيه كلنا ومن بين دركات العار التي وصلناها , أتاح لي الشريف الرضي عبر أسابيع طويلة , راحة كبرى ساعدني فيها شرح الأستاذ الشيخ محمد عبده. وتوالت الأسئلة , وما كان أكثرها , وطالت الأجوبة وما كان أسخاها . ولأن الأسئلة كانت من واضع اليوم فلم أشأ أن اجرح سيدي الإمام بأن أضع أجوبته في أيدي رقباء هذا العصر .
لذلك ليس في حديثي المنشور اليوم : رأيه في أهل العراق ولا رأيه في أهل مكة والكوفة , والبصرة . وكما يقول سيدي الإمام : " من تذكر بعد السفر استعد " , فقد استعددت بأن يكون حديث بعيدا عن مزالق أيامنا المعاصرة هذه . ولعل أهم ما في أرائه غير المنشورة هو إنها تختصر الزمن كله . وكأن التاريخ لم يغير من طبائع هذه الشعوب ولم يعلمها درسا واحدا. وكان لابد من بداية لحديثي مع الإمام علي بن أبي طالب (ع) . فأستأذنه بسؤالي الأول:
1 –سيدي أمير المؤمنين . ما هذا الزمان الذي تعيشه أمتك ؟.
-"يأتي على الناس زمان لا يقرب فيه إلا الماحل , ولا يظرف فيه إلا الفاجر , ولا يضعف في إلا المنصف . يعدون الصدقة فيه غرما . وصلة الرحم منا . والعبادة استطالة على الناس . فعند ذلك يكون السلطان بمشورة النساء , وإمارة الصبيان , وتدبير الخصيان .(...لكن) إذا تغير السلطان تغير الزمان.(... و) صاحب السلطان كراكب الأسد يغبط بموقعه وهو اعلم بموضعه ...(... و) آلة الرياسة سعة الصدر .(... لكن) من ملك استأثر."
2 – لكن كيف يواجه المرء , يا أمير المؤمنين , آلة الحكم , وسلطان الحاكم , والوضع العربي كما نعرفه اليوم عاجز ومشلول ؟ .
- " لا خير في الصمت عن الحكم كما انه لا خير في القول بالجهل " .
3 – وهل يعمل الحاكم بمشورة المحكومين يا أمير المؤمنين ؟
- " من استبد برأيه هلك , ومن شاور الرجال شاركها في عقولها .(...و) من استقل وجوه الآراء عرف مواقع الأخطاء ".
4 – لقد أصبح الظلم من معالم أمتك يا سيدي الإمام . أليس لهذا الظلم نهاية ؟ .
- " الظلم ثلاثة : ظلم لا يغفر , وظلم لا يترك , وظلم لا يطلب . (... ) ويوم المظلوم على الظالم , اشد من يوم الظالم على المظلوم ..
(...) ويوم العدل على الظالم , اشد من يوم الجور على المظلوم " .
5 – لكن سلطان هذا الزمان يضيق صدره بالعدل يا سيدي ؟
- " من ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق " .
6 – أليس لهذا السلطان يا سيدي أمير المؤمنين من مواصفات ؟
- " لا ينبغي أن يكون الوالي (...) البخيل , فتكون في أموالهم نهمته . ولا الجاهل , فيضلهم بجهله . ولا الجافي , فيقطعهم بجفائه .
ولا الحائف للدول فيتخذ قوما دون قوم . ولا المرتشي في الحكم , فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع " .
7 – أين الوطن يا سيدي الإمام , وقد أصبحنا كلنا نعيش في غربة قاسية ؟
- " ليس بلد بأحق بك من بلد , خير البلاد ما حملك (...) الغنى في الغربة وطن , والفقر في الوطن غربة "
8 - لكن الفقر يا أمير المؤمنين , ليس هو غربتنا الوحيدة . يكاد الفقر يكون مقيما معنا في عصر الغنى العربي ؟ .
- ألم اقل لابني محمد بن الحنفية : يا بني أني أخاف عليك الفقر فأستعذ بالله منه . فأن الفقر منقصة للدين
مدهشة للعقل داعية للمقت .(...) الفقر هو الموت الأكبر (...) ولو كان الفقر رجلا لقتلته .
9 – لقد شح عطاؤنا يا أمير المؤمنين . حتى يوم كثر مالنا ؟.
- " لا تستح من إعطاء القليل فأن الحرمان اقل منه . (...) ومن كثرة نعم الله عليه كثرت حوائج الناس إليه (...) وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف , وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة , ويكرمه في الناس ويهينه عند الله . (... لكن) ما أقبح الخضوع عند الحاجة والجفاء عند الغنى (...) فالمال لا يبقى لك ولا تبقى له " .
10 – لكن الحاجة تدفع إلى الطلب أحيانا كثيرة يا سيدي الإمام ؟
- " أن حفظ ما في يديك أحب إلي من طلب ما في يد غيرك . ومرارة اليأس خير من الطلب إلى الناس "
11 – والطمع ؟
- " الطمع رق مؤبد "
12 – والعلم يا سيدي , أين منه المال ؟
- " العلم خير من المال . والعلم يحرسك وأنت تحرس المال . المال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق (...)
العلم حاكم والمال محكوم عليه ..(...) أن المال من غير علم كالسائر على غير طريق " .
13 – أحوال العبادة في عالمنا قد ساءت يا سيدي الإمام . لم تعد تدري كيف يتعبد الناس يا أمير المؤمنين , وبماذا تؤمن ؟
- " إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار . وان قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار "
14 – ما الفرق بين العاقل والأحمق يا أمير المؤمنين ؟
- " لسان العاقل وراء قلبه , وقلب الأحمق وراء لسانه " .
15 – والأحمق ماذا يريد عادة ؟
- " انه يريد أن ينفعك فيضرك "
16 – والبخيل ؟
- " فأنه يبعد عنك أحوج ما تكون إليه " .
17 – والفاجر ؟
- " فأنه يبيعك بالتافه "
18 – والكذاب ؟
- " فأنه كالسراب يقرب عليك البعيد ويبعد عليك القريب " .
19 – والمرأة يا أمير المؤمنين , أين هي من كل هذا ؟
- " أن البهائم همها بطونها . وان السباع همها العدوان على غيرها .
وان النساء همها زينة الحياة الدنيا " .
20 – والغيرة ؟
- " غيرة المرأة كفر وغيرة الرجل إيمان "
21 – أليس من الصعب الحكم على النوايا يا سيدي الإمام ؟
- " وما اضمر احد شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه " .
22 – كيف نعامل الناس يا أمير المؤمنين في ظل هذه الظروف الصعبة ؟
- " خالطوا الناس مخالطة إن متم معها بكوا عليكم , وان عشتم حنوا إليكم .(...)
ولا يمكن لك إلى الناس سفير إلا لسانك ولا حاجب إلا وجهك . (... لقد ) هانت عليه نفسه من أمر لسانه " .
23 – وأعداؤنا ؟
- " إذا قدرت على عدوك فأجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه " .
24 – وهل نصالح أعداءنا يا سيدي الإمام ؟
- " لا تدفعن صلحا دعاك إليه عدوك ولله فيه رضا , فأن الصلح دعة لجنودك , وراحة من همومك , وأمنا لبلادك
ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه . فأن العدو ربما قارب ليتغفل , فخذ بالحزم واتهم في ذلك حسن الظن " .
25 – كيف نسعى يا سيدي أمير المؤمنين بين الحق والباطل ؟
- " الباطل أن تقول سمعت والحق أن تقول رأيت . (...و) الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم , وعلى كل داخل في باطل أثمان : إثم العمل به وإثم الرضا به (...و) من صارع الحق صرعه " .
26 – وكيف نعمل إذن يا أمير المؤمنين ؟
- " احذر كل عمل يعمل به في السر ويستحي منه في العلانية .. واحذر كل عمل إذا سئل عنه صاحب أنكره أو اعتذر منه " .
27 – والحياة , كيف نواجهها والحالة هكذا يا سيدي ؟
- " ليس من شيء إلا ويكاد صاحبه يشبع منه ويمله , إلا الحياة فأنه لا يجد له في الموت راحة "
28 – والدهر كيف نعامله يا مولاي الإمام ؟
- " الدهر يومان : يوم لك ويوم عليك . فإذا كان لك فلا تبطر , وإذا كان عليك فأصبر " .
29 – لكن اللؤم يكاد أن يطغي على دهرنا هذا يا سيدي ؟
- " احذروا صولة الكريم إذا جاع واللئيم إذا شبع " .
30 – بل كيف ندفع التهمة عنا ؟
- " من وضع نفسه مواضع التهمة لا يلومن من أساء له الظن " ..
31 – والإصرار على الجهل . كيف نحترس منه يا سيدي ؟
- " من كثر نزاعه بالجهل دام عماه عن الحق " .
32 – حتى لو أصبحنا اليوم من غير أصدقاء ؟
- " اعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان , واعجز منه من ضيع من ظفر به منهم .(...)
لكن لا تتخذن عدو صديقك صديقا فتعادي صديقك " .
33 – أين الأمل في كل هذا يا أمير المؤمنين ؟
- " من وثق بماء لا يظمأ "
34 – أليس من مسك لختام حديثنا هذا يا سيدي أمير المؤمنين ؟
- " ما أكثر العبر واقل الاعتبار " .
( اعتمد هذا اللقاء على ماورد في كتاب ( نهج البلاغة ) بأجزائه الأربعة.
وهو مجموع ما اختاره الشريف الرضي من كلام الإمام علي بن أبي طالب (ع)
وكما شرحه الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية) .