إن من أعظم الحقائق وأجلاها في الفطر والعقول حقيقة وجود الله
سبحانه وتعالى ، هذه الحقيقة التي اتفقت العقول على الاعتراف بها - وإن
أنكرتها بعض الألسن ظلما وعلوا - ، فهي من الوضوح بمكان لا تنال منه
الشبهات ، وبمنزلة لا يرتقي إليها الشك .
ففي
كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
وقد تنوعت دلائل
وجود الله سبحانه ابتداء من ضمير الإنسان وفطرته ، إلى كل ذرة من ذرات
الكون ، فالكل شاهد ومقر بأن لهذا الكون ربا ومدبرا وإلها وخالقا . وأولى
هذه الدلائل دليل الفطرة ، ونعني به ما فطر الله عليه النفس البشرية من
الإيمان به سبحانه ، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الدليل فقال : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا
تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون }(
الروم: 30 )، وهذا الدليل باق في النفس الإنسانية بقاء الإنسان نفسه في هذا
الكون ، وإن غطته الشبهات ،ونالت منه الشهوات ، إلا أنه سرعان ما يظهر في
حالات الصفاء وانكشاف الأقنعة. وفي الواقع أمثلة كثيرة تدلنا على ظهور
الفطرة كعامل مؤثر في تغيير حياة الإنسان من الإلحاد إلى الإيمان ، ومن
الضلال إلى الهدى ، فذاك ملحد عاين الموت تحت أمواج البحر ، فبرزت حقيقة
الإيمان لتنطق على لسانه أن لا إله إلا الله ، فلما نجاه الله أسلم وحسن
إسلامه .
وحادثة أخرى تتحدث عن طائرة تتهاوى بركابها ،
فتتعالى أصوات الإيمان منهم وقد كانوا من قبل أهل إلحاد وكفر ، وقد سجل
الله هذه الظاهرة في كتابه الكريم في أكثر من آية،منها قوله تعالى : { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم
إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا } (الاسراء:67). فهذا هو دليل
الفطرة وهو من القوة والمكانة بحيث لا يستطيع أن يدفعه دافع أو ينازع فيه
من منازع .
وثمة دليل آخر لا يقل قوة وأهمية عن دليل
الفطرة وهو ما أسماه أهل العلم بدليل الحدوث ، ومفاد هذا الدليل أنه لابد
لكل مخلوق من خالق ، وهذه حقيقة يسلم بها كل ذي عقل سليم ، فهذا الأعرابي
عندما سئل عن وجود الله قال بفطرته السليمة : البعرة تدل على البعير ،
والأثر يدل على المسير ، فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، ألا تدل على
العزيز الخبير . فلله ما أحسنه من استدلال وما أعجبه من منطق وبيان .
ومن الأمثلة الأخرى التي تدل على هذه الحقيقة ما روي من أن أحد
العلماء طلب منه بعض الملاحدة أن يناظره في وجود الله سبحانه ، وحددوا لذلك
موعدا ، فتأخر العالم عنهم وكان تأخره عن قصد ، فلما جاءهم وسألوه عن سبب
تأخره قال : لقد حال بيني وبين مجيء إليكم نهر ، ولم أجد ما ينقلني إليكم ،
غير أن الأمر لم يطل حتى أتت سفينة ، وهي تمشي من غير أن يقودها قائد ، أو
يتحكم فيها متحكم ، فصاح به الملاحدة ماذا تقول يا رجل ؟!! فقال لهم :
أنتم أنكرتم أن يكون لهذا الكون خالقا ، ولم تصدقوا أن تكون سفينة من غير
قائد ، فاعترفوا وأقروا .
وقد نبه القرآن إلى هذا الدليل
في مواضع كثيرة ، قال تعالى : { أم خلقوا من غير شيء
أم هم الخالقون () أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون }(الطور:35-36)
هما احتمالان لا ثالث لهما إلا الاعتراف بوجوده سبحانه والإيمان به .
الاحتمال الأول: أن يكون هذا الخلق من غير خالق ، وهذا مستحيل تنكره العقول
إذ لا بد للمخلوق من خالق وللمصنوع من صانع ، فالعدم لا يخلق . والاحتمال
الثاني : أن يكونوا هم الذين خلقوا أنفسهم وخلقوا السماوات والأرض ، وهذا
مستحيل أيضا إذ لم يدَّع أحد أنه خلق نفسه فضلا عن السماوات والأرض ، ولو
ادعى مدع ذلك لاتهم بالجنون والهذيان ، إذ إن فاقد الشيء لا يعطيه ، فلم
يبق إلا أن يكون لهذا الكون خالقاً وموجدا ، وهذا دليل غاية في القوة
والبيان لذلك عندما سمعه جبير بن مطعم قال : " كاد قلبي أن يطير " كما ثبت
ذلك عند البخاري . فهذه بعض الأدلة على وجوده سبحانه ، وهي أدلة من تأملها
وأمعن النظر فيها لم يسعه إلا التسليم بها.