لم نكن بحاجة لهذا الاختبار الفاصل، كي نفرز الأصوات الإعلامية الوطنية من
المأجورة.. لم تزد خلال هذه الأزمة قائمة المنتفعين، ولم تنقص قائمة
الشرفاء.. لم تُطِل وجوه جديدة على مشهد الإعلام الرسمي، ولم تغب الوجوه
الغيورة على مصر عن الإعلام الخاص وبعض القنوات العربية الوطنية... لكن
خلال اليومين الأخيرين طفحت على تليفزيون الحزب الوطني وقنواته الخاصة
المستأجرة أطنان يتعذر قياسها من الهراء والأكاذيب إلى حد لم يسبق له
مثيل.. أمر يتفوق على كل التوقعات، فأبواق الإعلام مدفوع الثمن نثرت في
سماء مصر رسائل معادة ونمطية كثيرة، تبدو في ظاهرها ملائمة تماماً لثقافة
مجتمعنا، ومتجانسة مع طريقة تفكير وحياة معظم أفراده، لكنها في الجوهر
سموم تستهدف العزيمة، وتصيب الروح المعنوية للشباب في مقتل..
والحقيقة
التي باتت واضحة للجميع، بعد أحداث الأربعاء الدامية، أن الرئيس مبارك
اختفى عن الأنظار بين بيانه الأول والثاني خلال الأزمة، ولم يظهر إلا في
لقطات إخبارية تصور اجتماعاته برجاله الجدد، بينما لم تكن هذه اللقطات سوى
بالونة هواء تشغل انتباه المتظاهرين والإعلام، أما الرئيس فكان يتابع خطة
أنس الفقي وزير إعلامه الوفي وصفوت الشريف خادمه المطيع لاستعادة الشارع
المصري، وفق سيناريو يخلط السذاجة بالدهاء، يبدأ من صياغة بيان رئاسي مطاط
تغيب عنه الأساسيات، وتقطر منه دموع التماسيح، ثم تَبَني حملةِ ولاء
واعتذار للزعيم الأب، ترفع شعارات: "مبارك ما يستاهلش مننا كده"، و"عيب"،
و"كفاية قلة أدب"... وعبارات أخرى من النوع الذي يسهل هضمه على الأميين
وربات البيوت، كما يسهل على فناني ومثقفي السلطة أداؤه بنبرة عتاب فوقية،
تضرب على يد المتظاهرين، وتؤنبهم على تطاولهم على أبيهم وإنكارهم
لجمائله.. بعدها يُستدعى الآلاف من الشباب والبلطجية المسجلين في قوائم
جاهزة لدى الحزب الوطني، بالإضافة لنساء وشيوخ من مختلف الأعمار لإكمال
الصورة، ويُحشد كل هؤلاء في مسيرات تتقدمها الخيول والجِمال للانقضاض على
ميدان التحرير بالقاهرة، وقصف المتظاهرين الشبان بالزجاجات الحارقة
والحجارة، وقتل وإصابة العشرات منهم لإرهاب الباقين، وتُتوَّج هذه الدسيسة
باستفزاز الجيش للتدخل، وفض الاعتصام، لتتحول الثورة بكل ما شهدته من
مظاهر سلمية وإصرار على مطالب شرعية، إلى انقسام بين الشباب إلى فئتين:
فئة المستغَلين سياسياً، سواء من قِبَل المعارضة (ذات الأجندة الدنيئة كما
وصفها مؤيد للرئيس مبارك على قناة العربية السعودية المتعاطفة مع مبارك)،
أو من قِبَل دول تضمر الكراهية لمصر، مثل إيران كما اقترح "سيد علي" على
قناة المحور، وفئة الوطنيين بمفهوم الحزب الوطني، الذي يدين بالولاء
للرئيس مبارك، ويرحب بقراراته الأخيرة، حتى لو كانت متأخرة..
يا
لها من خطة! تُخْرج مبارك من وحل السقوط المدوي كالشعرة من العجين.. يستحق
مؤلف ومخرج هذه الخطة الخبيثة جائزة أو علاوة من الرئيس، سيدفعها كالعادة
من جيوب الشعب، ويضمها على فاتورة أجور الهتيفة، واستئجار الخيول والجمال
(التي زعم حسن راتب صاحب قناة المحور أنها تخص المتضررين من ضرب السياحة)،
وتكلفة الزجاجات الحارقة التي ظهرت فجأة في ميدان التحرير، وطبع صور
لمبارك بالآلاف بين عشية وضحاها، طبعاً غير الخسائر التي نجمت عن حرق
سيارات خاصة في الإسكندرية، وتحطيم واجهات محلات في ميدان التحرير نتيجة
إلقاء الحجارة.. ناهيك عن الأرواح التي أهدرت، والدماء التي سالت، من
مصريين بأيدي مصريين...
تظهر بشاعة وجه النظام في مثل هذه
المناسبات، فهو لا يسلك أبداً طرقاً سوية وقويمة في التعامل مع معارضيه..
وإنما دائماً ما يفتش عن أكثر الطرق التواءاً وانحرافاً.. ويبدو أنها صارت
من طبائعه التي يستحيل عليه التخلص منها، وهي توغل في التدني كلما اشتدت
أزماته، كما لو كان يتحدى بها الشعب صاحب البلد، ويقول له: هذه بلدي أنا،
فأنا صاحب اليد الطولى بامتلاكي مفاتيح الإنترنت، والهاتف المحمول، وخطوط
السكك الحديدية، وقنوات الإعلام المرئي والمسموع، بما فيها المملوك لرجال
الأعمال الأوفياء للنظام.. وأستطيع حشد البلطجية، ليجعلوا مصر صومالاً
خلال غمضة عين..
يا سيادة الرئيس.. مع السلامة...