تتقدم العلوم الطبية بسرعة وتظهر مئات الأدوية الجديدة كل عام. ولكن الأطباء لاحظوا أن استجابة بعض الناس للعلاج ببعض الأدوية تختلف عن استجابة الآخرين للدواء ذاته وفي الحالة المرضية نفسها، واكتشف الأطباء أن السبب يكمن في اختلاف بعض الجينات.
والآن يعمل الأطباء على حل هذه المشكلة بإجراء بعض الفحوصات الجينية التي يمكن منها معرفة الفروق في الجينات التي تؤدي الى الاستجابة المختلفة، وبعدها سوف يقرر الطبيب أي الأدوية أنسب إلى المريض من الناحية الجينية.
واذا لم يوجد هذا الدواء بجرعات مناسبة للمريض فسوف يتم تصميم أو تفصيل دواء جديد متناغم مع جينات المريض، وهكذا ظهر علم جديد هو علم الأدوية الجينية.
في كل مرة تتناول فيها دواء ما قد لا تحصل على التأثير الذي كنت تتوقعه، وفي كل عام يتناول مئات الآلاف منا أدوية وعقاقير، ولكنها لا تعمل بفاعلية بالنسبة إلى الكثير منا، والأسوأ أنها قد لا تعمل على الاطلاق أو تسبب أضرارًا وآثارًا جانبية خطرة.
وبعد دراسات مطولة عرف العلماء الآن أن المشكلة تقع بصورة كبيرة في تركيبنا الجيني.
أن التنوع هو توابل الحياة ولكن بالنسبة إلى مصانع الأدوية، فإن التنوع الجيني للبشر يضعهم في مشكلة صعبة،فنحن نستطيع أن نعرف الجرعة المأمونة من الاسبرين التي تعالج الصداع لدينا، ولكن الأمر يزداد صعوبة مع الأدوية الأكثر قوة التي تستعمل في علاج أمراض خطرة.
وفي وقتنا الحالي، فإن الأطباء يظلون غير قادرين على تحديد هذه الاختلافات، فالممارسة الطبية الحالية عبارة عمّا يمكن تشبيهه بمقاس واحد يناسب الجميع : فأنت تصاب بالمرض وتذهب الى طبيبك ثم تأخذ دواء وليكن اسمه (س)، وغالبًا ما يكون أرخص المتاح، لكي يعالج مرضك وليكن اسمه (ص).
ولكن الأطباء ومنتجي الأدوية يعلمون جيدًا أن ما يناسب شخصًا لا يناسب بالضرورة شخصًا آخر.
ومنذ عام 1892 قال طبيب كندي عظيم يدعى سير ويليام أوسلر : " لولا الفروقات الكبيرة بين الأشخاص لصار الطب مجرد علم وليس فن ".
ان علم الأدوية الجينية الذي يختص بدراسة كيف يمكن للجينات أن تؤثر على استجابتنا للعقاقير، يقودنا الى عصر جديد من الممارسة الطبية يمكن أن يطلق عليها "الطب الشخصي ".
وهذا العلم يمكن أن يجعل الأمور أكثر فاعلية عن طريق صنع الدواء المناسب للمريض المناسب.
وهذا يعني أن كثيرًا من الناس سيحصلون على أدوية تم تفصيلها بالمقاس لكي تناسب تركيباتهم الجينية وأمراضهم المحددة. وهذا ما يقوله الدكتور ألين روزس نائب رئيس الأبحاث الجينية في شركة أدوية عملاقة.
وفي ديسمبر 2003 وجد الدكتور ألين روزس نفسه متصدرًا مانشتتات الصحف بعدما ذكر أمام مؤتمر علمي أن أكثر من 90 % من الأدوية تؤثر في 30 – 50 % فقط من الناس.
وهذا التعليق تم تداوله على أنه أمر سري وخطر، وهو في الواقع ليس سرًا بل هو حقيقة بيولوجية لأن المرض يمكن أن يختلف من شخص لآخر.
ومن المعروف أن البشر يتفقون جينيًا على وجه العموم، وهناك بعض الفروق في فصيلة واحدة من الشمبانزي أكثر من الموجودة في النوع البشري كله، ولكن مع ذلك فهناك كثير من الفروق الجينية المختلفة ذات الأهمية الطبية في البشر، وعلى وجه التقريب فإن واحدًا في الألف في الثلاثة بليون حرف من الحمض النووي DNA التي تصنع الجينوم البشري تختلف في أي اثنين من البشر.
وهذا يجعل حوالى 3 مليون حرف مختلفة بين أي اثنين على وجه الأرض، ما عدا التوائم المتشابهة. بعض هذه الفروق ليس لها تأثير على الاطلاق، ولكن بعضها الآخر يؤثر على امكانية الاصابة بأمراض مزمنة مثل السرطان والسكر وأمراض القلب، وبعض الاختلافات يحدد امكانية الاستجابة للعقاقير والتاثيرات الجانبية الضارة لها.
ويقرر الطب أن تناول أي دواء قد يكون عملاً خطرًا له تأثيرات ضارة، فالتأثيرات الضارة للأدوية هي خامس سبب للوفاة في بعض البلدان المتقدمة بما فيها أميركا وبريطانيا، وتكلف حوالى 2 بليون جنيه استرليني في السنة في بريطانيا وحدها لعلاج ما تتسبب فيه التأثيرات الجانبية للأدوية.
اذن فنحن نعرف الآن ان كيفية تفاعل جسمك مع الدواء ليس فقط بسبب نوع المرض بل بسبب جيناتك أيضًا.
وعلى الرغم من أن التأثيرات الضارة للدواء يمكن أن تكون لأسباب مختلفة مثل نوع الطعام والحالة الصحية العامة، فإن الجينات هي العامل الحاسم في تحديد كيفية استجابة جسمك للدواء.
وعلم الأدوية الجينية يستطيع أن يحدد الجينات التي تتحكم في عمل الدواء وما اذا كانت للخير أم للشر.
وتسمية هذا العلم بعلم الأدوية الجينية تم في عام 1959. واحد من الأمثلة المبكرة للتأثير الدوائي الجيني جاء من دواء باسط للعضلات يسمى "سكسينيل كولين" تم تطويره في الخمسينات، لكي يستخدم مع عقاقير التخدير ليمنع حركة عضلات المريض أثناء العمليات الجراحية.
وعلى الرغم من أن تأثير هذا الدواء يتلاشى بسرعة معقولة في معظم الناس مما يؤدي الى استعادة المريض لقدرته على الحركة والتنفس بحرية، فإنه قد لوحظ في نسبة قليلة من الناس يطلق عليهم اسم "ذوي التمثيل الغذائي البطيء" أن تأثيرات الدواء ظلت تعمل لفترة طويلة وبالتالي ظل المرضى في حالة شلل لفترة طويلة.
وأظهرت الدراسات التي أجريت على العائلات ذات التمثيل الغذائي البطيء نموذجًا جينيًا واضحًا، وظل الأمر كذلك حتى التسعينات عندما تم تحديد الجينات المسؤولة عن هذا البطء في التمثيل الغذائي.
ووصل التقدم المذهل في علم الجينات البشرية في العقدين الماضيين الى قمته بالتوصل الى ترتيب الجينوم البشري في عام 2000، وهذا التقدم مهد لاحتمالات جدية لتجربة جينات معينة وملاحظة استجابتها لعقاقير معينة، وهكذا تدخل علم الأدوية الجينية في علاج سرطان الدم عند الأطفال عن طريق مجموعة من الأدوية تسمى "الثيوبيورين"، فمنذ أربعين عامًا مضت كان سرطان الدم بمثابة حكم بالاعدام على من يصاب به، ولكن مجموعة الثيوبيورين أثبتت أنها علاج فعال حيث يستجيب معظم الأطفال جيدا للثيوبيرين ولكن عدد قليل منهم يعانون من تأثيرات جانبية خطرة مع الجرعات العادية للدواء، وقد يقودهم ذلك الى حتفهم.
هؤلاء المرضى يحتاجون إلى نسبة ضئيلة من الدواء تبلغ واحد الى عشر من الجرعة الاعتيادية، ولكن كيف يمكن معرفة من يحتاج الى الجرعة المنخفضة ومن يحتاج الى الجرعة العادية؟ منذ عام 1999 استعمل العلماء الاختبارات الجينية لتحديد آلاف من المرضى ذوي الاستعدادات الجينية للاصابة بآثار جانبية خطرة من تناول الدواء، وبالتالي أمكن تفصيل جرعة الدواء المناسبة لهم.
ويبدو أن علم الأدوية الجينية قد ظهر في وقت مناسب في التاريخ الطبي لأنه خلال الخمسين عامًا الماضية شهد الطب ثورة دوائية هائلة وظهرت أدوية جديدة لأمراض كانت غير قابلة للعلاج في الماضي.
وعلم الأدوية الجينية يستطيع مساعدة الأطباء لكي يحصلوا على أحسن ما في هذه الثورة الدوائية عن طريق ترتيب الجرعة المناسبة لكل فرد حسب استعداده الجيني، وهكذا تقل التاثيرات الجانبية ومخاطرها، كما يمكن زيادة التأثيرات المفيدة للأدوية الجديدة.
وكما يقلل علم الأدوية الجينية من التأثيرات الجانبية للدواء، فإن أيضًا يساعد على منع استعمال الأدوية غير المناسبة للمرضى.
ففي حالة سرطان الرئة يستعمل عقار يسمى "اريساIressa " تم تطويره في عام 2003، ووجد الأطباء أن بعض المرضى لا يستجيبون للدواء حيث أن سرطانات الرئة لا تأتي كلها من مسبب واحد، اذ يظهر السرطان خلال تغييرات جينية في خلايا الرئة، ولكن دواء "اريسا" يكون فعالاً فقط ضد نوع محدد من التغيرات الجينية. هذا النوع لم يتم التعرف إليه حتى أكتوبر 2004.
ولكن الأطباء يأملون الآن في امكانية تطوير اختبارات جينية يمكن من خلالها معرفة من سيستفيد من هذا العقار.
وعلى الرغم من الفوائد غير المشكوك فيها لعلم الأدوية الجينية، فإن هناك احتمال ظهور مشاكل لشركات انتاج الأدوية في هذه الجنة الطبية الموعودة، اذ إن هنا احتمال انخفاض مبيعات بعض الأدوية عندما يتم التعرف إلى مجموعة محددة من المرضى ذات جينات معينة تستجيب لدواء معين، حيث أن مبيعات هذا الدواء لن تكون لكافة المرضى بل للمجموعة المستجيبة فقط، ولكن شركات الأدوية قد تستجيب لهذا التهديد بانخفاض المبيعات عن طريق رفع أسعار الأدوية الجديدة الى مستويات خرافية، مما يمكن أن يخلق حالة مزعجة في المجتمع عندما لا يستطيع عديد من المرضى الحصول على الدواء غالي الثمن.
وعلى العموم فمازال أمام الطب وقتًا كثيرًا للوصول الى الاستفادة الكاملة من معلوماته عن الجينات البشرية في صنع أدوية تفصيل مناسبة لكل مريض على حدة.
تطور علم الأدوية الجينية
عام 1865
نشر الراهب المجري جريجور مندل نتائج تجاربه على البسلة، ووضع أسس علم الجينات الحديث. واكتشف ثلاثة من العلماء كل على حدة وفي الوقت نفسه نتائج دراساته في عام 1900، وأعادوا تسمية عوامل مندل الوراثة مطلقين عليها اسم الجينات.
عام 1892
علق الطبيب الكندي سير ويليام أوسلر على المشاكل التي ظهرت من اختلاف نتائج علاج المرضى الذين يعانون من نفس المرض في كتابه "مبادئ وممارسة الطب"، الذي ظل مرجعًا مهمًا لمدة 30 عامًا.
عام 1923
نشر السير أرشيبالد جارود كتابه "أخطاء داخلية في التمثيل الغذائي " أوضح فيه تأثير الوراثة على الصحة والمرض في عديد من الأمثلة، وجهز الساحة الطبية لمزيد من التفكير العام عن تأثير العوامل الجينية في المرض.
عام 1932
دور الوراثة في تحديد عدم القدرة على التذوق، حيث لوحظ أن بعضهم يمكنهم تذوق الطعم المر في بعض الخضروات بينما لا يستطيع بعضهم الاخر تذوق المرارة على الاطلاق، ولقد وجد أن جين واحد هو المسؤول عن هذا الفرق.
عام 1953
اقترح العالمان جيمس وطسن وفرانسيس كريك التركيب الثنائي النموذج للحامض النووي، والذي يشرح الطريقة التي يمكن بها حمل المعلومات الوراثية مثل كود رقمي مكتوب على أحرف منفردة للغة الكيميائية للحامض النووي DNA.
عام 1957
كتب أرنو موتولسكي ورقة بحث بعنوان " تأثيرات الدواء والانزيمات والكمياء الحيوية للجينات " وتظهر هذه الورقة كيف يمكن للعوامل الجينية أن تجعل المرض يصيب بعض الناس عند التعرض لدواء معين.
عام 1959
استعمل فريدريك فوجل تعبير "علم الأدوية الجينية " لأول مرة في ورقة بحث عن مشاكل علم الجينات البشرية، واستعمل هذا التعبير لمدة 45 سنة بعد ذلك، ثم بدأ استعمال تعبير آخر منذ عام 1998 وهو علم الأدوية الجينومية.
عام 1962
نشر فيرنر كالو أول كتاب في علم الأدوية الجينية : "الأدوية الجينية : الوراثة والاستجابة للأدوية"، وفي هذا الكتاب شرح كالو كل الدراسات المعروفة عن تأثير الجينات في الاستجابة للأدوية والكيماويات الأخرى.
عام 1998
تمت الموافقة على استعمال دواء لسرطان الرئة يسمى "هيرسيبتين Herceptin" بواسطة ادارة الأغذية والأدوية الأمريكية، وأصبح هذا الدواء أشهر مثال للجرعات الدوائية الجينية.
عام 1999
أمكن اجراء مسح للجينوم البشري للعثور على حرف منفرد يظهر فروقا بين بعض الناس، ويؤدي الى اختلال الاستجابة للدواء.
عام 2000
أعلن العلماء عن مسودة الجينوم البشري ، وتم نشرها في مجلات "نيتشر" و"ساينس". وأصبح على البشر أن يعيشوا مع حقيقة أننا نملك 30000 جين فقط، وهذا الرقم هو أعلى بعدة ألاف فقط عما تملكه الدودة.
عام 2002
تم تطوير دواء لسرطان الرئة "اريسا Iressa"، ووافقت على استعماله كل من اليابان وأميركا في عام 2003. وأظهرت الدراسات أن بعض المجموعات الجينية لا تستجيب لهذا الدواء.
عندما تذهب الى ميعاد مع الطبيب في عام 2020 .. الدواء المناسب للمرض المناسب
الخطوة الأولي :
مثلما تفعل هذه الأيام، أنت تذهب لزيارة الطبيب عندما تشعر بالمرض، وتصف له الأعراض، ومثل أيامنا هذه فإن الطبيب سوف يسجل ملاحظات.
الخطوة الثانية :
يقوم الطبيب بفحصك واجراء اختبارات لكي يحدد نوع المرض. وقد يشمل هذا فحص جينات النسيج المصاب بالمرض في جسدك.
الخطوة الثالثة :
في نفس الوقت يتم اجراء فحوص جينية على عينة الدم، أو يتم مراجعة ملفك الجيني لكي يتم التعرف على جيناتك.
الخطوة الرابعة :
بناء على هذه المعلومات يمكن للطبيب أن يستبعد الأدوية غير المفيدة أو المأمونة من قائمة الأدوية التي يمكن أن تعالج حالتك.
الخطوة الخامسة :
من الأدوية المتبقة في القائمة الجينية يمكن للطبيب أن يختار واحدًا هو الأكثر فاعلية في حالة مرضك.
الخطوة السادسة :
في حالة ما اذا كنت معرضًا للخطر من كل الأدوية المتاحة، فإن الطبيب سوف يرسلك الى أخصائي لاجراء مزيد من الفحوص والعلاج.
.