حسنات البنات
بات الأبُ المسلم ساهرًا مهتمًا، ينتظر فرج الله - تعالى- وسلامة
زوجته، ويرقب البشارة بالإنجاب ووصول الولد، وما هي إلا ساعات ولحظات حتى
بُشّر بمولود جميل، لكنه ليس ذكرًا بل كان أنثى، فتغيّر وجه الأب، وانكمش
حاله، ونُغِّصت سعادته، واعترته الكآبة والضيق!
لماذا؟! لأن الأب كان يطمع في المولود الذكر، ليقف بجانبه، ويقوم
بخدمته، ويساعده على أعباء الحياة؛ لكنه نسي أن هذا رزق ساقه الله إليه،
وله فيه الحكمة البالغة، ونسي أن هذا الإنجاب نعمةٌ عظيمةٌ حُرم منها بعض
الناس، (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) [القصص: 68]، ونسي
أن كل ما يقضيه الله للمؤمن خيرٌ له وأعظم، (فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا
شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) [النساء: 19].
أيها الإخوة، لقد آلمَ العقلاء ما بدر من بعض المسلمين من التحاف
النفسية الجاهلية تجاه إنجاب البنات، فتضايق من ولادتهن، وضاق بالبشارة
بهنّ، فكان كما قال - تعالى-: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالأُنثَى
ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًا وَهُوَ كَظِيمٌ) [النحل: 88]. وآخر احتوته
الغفلة والبلادة، فحلف على زوجته المسكينة: لو أتت ببنات ليُطلقنَّها
وليفارقنّها فراق غير وامق..
سبحان الله! هل عادت فينا خَصلة الجاهلية الأولى؟! وهل تسلّط علينا
الشيطان؟! وهل تردت عقول هؤلاء الأزواج حتى يعتقدوا أن الزوجة سبب في
التأنيث؟!
لم يكن يُتَصوَّر أن يُطرق هذا الموضوع في ظل بيئة مسلمة تؤمن بالله
وتؤمن بقدرته وحكمته، حتى ترامى إلى مسامع الجميع تغيُّر النفوس من إنجاب
البنات، ومشابهة الكفار في التمعّر والغضب والاستياء من ولادة البنات،
وتهديد الزوجة بالطلاق مرات ومرات، كأن المرأة هي المسؤولة والضمينة لما
يصير ويحدث!
إن المسلم العاقل ليعجب ممن يدّعي الإسلام، ويصلي، ويصوم، ثم يتخلق
بأخلاق الكفرة، وأهل الجاهلية في كراهية البنات، والاشمئزاز بولادتهن، كأن
هذا الرجل قد رأى سعادتَه في إنجاب الذكور، ورأى مستقبله في غير البنات،
ورأى سلامته وبهجته في البشارة بالغِلمان، وما يدريك أيها الإنسان لعل
الله يبارك في البنات، ويصرف عنك لأواء الذكور وما يكون فيهم من طيش
وسفاهة.
أيها الإخوة الكرام: ليس عيبًا ولا منكرًا أن يُولد لبعضنا البنات، فإن
البنات فيهنّ خير عظيم، والعاقبة منهن حسنة، ويجني الآباء والأمهات منهن
فوائد عديدة، ولم يعش للنبي مدة حياته من أولاده إلا البنات، وقد رتَّب
على حسن تربيتهنّ وتعليمهن أجرًا كريمًا، ثبت في الصحيحين من حديث عائشة -
رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله: ((من ابتُلي من هذه البنات بشيءٍ
كنّ له سِترًا من النار))، والمعنى: إذا صبر على تربيتهن والإحسان إليهن
كنّ له حجابًا يحجبه من النار.. فأيّ فضل يرجوه المسلم بعد ذلك أن تكون
تربية البنات والصبر عليهن مانعًا له من دخول النار ومن ثم مصيره إلى جنات
النعيم؟!
يُحكى أن رجلاً كان لا يولد له إلا البنات، فضاق وتضجر من ذلك حتى هدّد
زوجته بالطلاق، فحملت المرأة مرة أخرى، فحُملت إلى المستشفى، وأسفر حملها
عن بنت حسناء، فرُئي عليها الحزن والكآبة من ذلك، فلاحظَ الممرضات ذلك،
فسألتها إحداهن فذكرت لهن الخبر، فأُخبر أحد الدكاترة بالقضية، فقال: دعوا
الأمر لي.
فلما أتى زوجها سأل الدكتور: ما الخبر؟ فقال الدكتور: هنيئًا، فقد ولد
لك مولود ذكر، فاستبشر الأب، فقال الدكتور: لكنه مشوّه الخِلقة، وفيه كذا
وكذا، ويشكو من كذا وكذا، ويحتاج إلى إشراف وعناية، فتغيّر وجه الزوج،
كأنما صُفع صفعة شديدة وأحسّ بابتلاء الله - تعالى -له..
فراجع نفسه وتساءل وقال: إنه ابتلاء الله لي؛ لأنني كرهت البنات، وما
أحببتهن، فهذا جزائي، فقال له الدكتور: لا عليك بل افرح واستبشر، فقد رزقك
الله بنتًا جميلة حسناء، فاستبشر الأب وحمد الله ورضي لقضاء الله وقدره،
(فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا
كَثِيرًا) [النساء: 19].
أيها المسلمون: لقد سخِِِط أناسٌ البنات فابتلاهم الله بالمتاعب
والأسقام، وعادت عليهم الذرية الذكور بالبلايا والنكبات، فذاك ابنه مع
الرفقة الفاسدة، وذلك في عُصبة المخدرات، وذاك تعيسٌ في دينه وخُلُقه؛
جزاءاً وفاقًا.
فعلى العبد أن يرضى بحكم الله عليه، ويؤمن بقدَره خيره وشرّه، ويعلم أن
الله- تبارك وتعالى -لا يقضى للمؤمن إلا خيرًا، قال كما في صحيح مسلم:
((عجبًا لأمر المؤمن، إنّ أمره كلَّه له خير، إنْ أصابته سراء شكر فكان
خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا
للمؤمن))، وقال ربنا - تعالى-: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن
يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ
مَن يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) [الشورى: 49].
فربنا - تعالى -هو خالق السموات والأرض، ومالكهما، والمتصرف فيهما،
وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، لا
مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وأنه يخلق ما يشاء، وقد جعل - سبحانه -
الناس أربعة أقسام: قسم يرزقه الإناث، وقسم يرزقه الذكور، وقسم يجمع له
الذكور والإناث، وقسم عقيم لا يولد له.
وجعل - سبحانه - القسم الأول في الآية الإناث: (يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ
إِنَاثًا) [الشورى: 49] تنبيهًا على فضلهنّ وردًا على أهل الجاهلية في
صنيعتهم النكراء من كراهتهم البنات ودفنهن أحياء، نعوذ بالله من انتكاس
الفطر وموت القلوب.
روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله:
((الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة)) لقد أنجب لنا التاريخ نساءً
صالحات وسيداتٍ مباركات، شيّدن مناراتٍ للعز والشرف، وبنَينَ مساكن
للبطولة، عزّ فعلها على كثير من الرجال والأبطال.
آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، عاشت ونشأت في قصر أكبر طاغية عُرف في
التاريخ، فلم تخضع لجبروته، ولم تدخل في ألوهيته، ولم تستسلم لدنياه، بل
صبرت على دينها وعزت بإيمانها، (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ
آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ
بَيْتًا فِي الجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي
مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ) [التحريم: 11].
وفي الصحيح يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((كَمُل من الرجال كثير، ولم
يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على
النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)).
وها هي ماشطة بنت فرعون تسجّل لأهل الإيمان موقفًا في الصبر والتضحية
والشمَم بإيمانها واستسلامها لله، عندما يراودها فرعون على إيمانها بالله،
فيقتل أبناءها أمامها واحدًا تلو الآخر وهي الأم الحنون، فتأبى أن تكفر
بالله، بل تصبر وتحتسب.
وتلكم خديجة بنت خويلد زوج رسول الله التي كان لها مقام النصرة
والتثبيت لرسول الله عندما نزل عليه الوحي، فقد قالت له كما في الصحيح:
"كلا والله، لا يخزيك الله أبدًا: إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتقري
الضيف، وتحمل الكَلَّ، وتعين على نوائب الحق.. وروى أحمد والنسائي بسند
صحيح أن النبي قال فيها: ((آمنتْ بي إذ كذّبني الناس، وآوتْني إذ رفضني
الناس)).
و ما التأنيـث لاسم الشمس عيبٌ *** ولا التذكيـر فخـرٌ للهـلالِ
ولـو أن النسـاء كمـن فقدنـا *** لفُضِّلت النسـاء على الرجـالِ
وهل سمعتم بامرأة تزوّجت على الإسلام، كان مهرها الإسلام، لم تطلب
سواه، إنها الرُميصاء أم سليم بنت ملحان - رضي الله عنها -. ثبت في
الصحيحين من حديث جابر أن النبي قال: ((رأيتُني دخلت الجنة، فإذا أنا
بالرميصاء امرأة أبي طلحة)).
وعند النسائي بسند صحيح عن أنس قال: تزوج أبو طلحة أم سليم، فكان صداق
ما بينهما الإسلام. وفي رواية قال: خطب أبو طلحة أم سليم، فقالت: والله،
ما مثلك يا أبا طلحة يُرد، ولكنك رجل كافر، وأنا امرأة مسلمة، ولا يحل لي
أن أتزوّجك، فإنْ تسلم فذاك مهري، وما أسألك غيره، فأسلم، فكان ذلك مهرها،
قال ثابت: فما سمعت بامرأة قط كانت أكرم مهرًا من أم سليم؛ الإسلام، فدخل
بها فولدت له.
وهذه والدة سفيان الثوري - رحمه الله -، توجهه لطلب العلم، وتعوله
بمغزلها، قال وكيع: قالت أم سفيان لسفيان: اذهب فاطلب العلم حتى أعولك
بمِغزلي، فإذا كتبت عدةَ عشرة أحاديث فانظر هل تجد في نفسك زيادة فاتبعه،
وإلا فلا تتعنَّ.
وهل بلغكم ـ يا مسلمون ـ خبر المرأة التي قعدت تعلّم زوجها العلم
الحديث؟! إنها بنت سعيد بن المسيّب - رحمه الله -، التي زوّجها لتلميذه
أبي وداعة، وكان فقيرًا، فلما أصبح من ليلته أصبح يريد التوجه لحلقة سعيد
بن المسيب، فقالت له: أين تريد؟! فقال: إلى مجلس سعيد أتعلم العلم، فقالت
له: اجلسْ أعلمك علم سعيد.
الله أكبر، ما أجلهَّا من أخبار! وما ألذها من قصص! أبانت لنا عظم فضل
النساء، وأنهن إذا حظين بالتربية الإيمانية والعلمية سجّلن مواقف نادرة
وبطولات خارقة، وأخرجن جيلاً فريدًا يطلب العلم ويروم البطولة ويسعى
للنُبل والفضيلة.