القصيدة العربية منذ الجاهلية وحتى فترة متأخرة من تاريخ تطورها، كانت تأبى على الشاعر أن يذهب إلى موضوعه دون أن يبدأ بالغزل، أو بالأحرى بالوقفة الطللية المرفقة بالغزل والنسيب.
ويحكى عن امرئ القيس أنه أول من وقف على الأطلال في زمانه، وأن شعراء الجاهلية اصطفوا وراءه ، ثم اصطف وراء هؤلاء شعراء العصور التالية في طابور شاسع استطال وما زال يستطيل حتى عصرنا الحاضر .
إن المتأمل في تاريخ أدبنا العربي يلاحظ كيف أن موضوعات كانت تبيد وتنقرض لتتولد وتزدهر موضوعات جديدة لا تلبث بدورها أن تعاني محنة الضعف والإهمال والتقهقر نتيجة لتبدل أحوال المجتمع وأمزجة الناس من مرحلة إلى مرحلة ومن عصر إلى عصر.
غرضان شعريان اثنان ثبتا في مجرى التغيرات والتبدلات، وحافظاً على قوتهما ومكانتهما في مختلف الأزمنة والظروف. إنهما الغزل والمديح .
لم يكن المديح صادراً عن حافز ذاتي لدى الشاعر، واستمراره وحيويته المتجددان لا يعودان إلى كون القول فيه يعكس قلقاً جدياً، فردياً وجماعياً .كون القول فيه يعكس قلقاً جدياً ، فردياً وجماعياً .ولعل نزعة الكسب المادي أو المعنوي هي التي كانت وراء نظم قصائد المديح لدى معظم الشعراء.فإذا كان المديح كفن شعري لا يملك فضيلة التعبير الصادق عن مزاج الإنسان العربي وقلقه، فلن يبق هناك من امتياز لغير الغزل كغرض شعري أصيل حافظ على حيويته وموقعه من دون أن يصاب بالكبوات أو يعاني من المحن والمصائر التعيسة التي عانتها من حين إلى حين أغراض الشعر الأخرى .لذلك استحق الغزل أن يأخذ جزءاً من حقه في موقعنا الغالي " مشتاوي " أرجو أن ينال إعجابكم، وأن تغنوه بمختاراتكم الغزلية الجميلة .
سأعمل جاهدة لألقي الضوء على أجمل المقطوعات الغزلية وأكثرها تميزاً من الناحيتين العاطفية والجمالية، وذلك لجميع الشعراء العرب - تقريباً - الذين لهم حضور واضح في مجال الغزل، مما يتيح للأحبة في موقعنا مشتاوي فرصة القيام برحلة ممتعة مع حركة هذا الشعر ( شعر الحب ) في تنوعه وتطوره المتناغمين مع تنوع الحياة العربية وتطورها .
سنتناول شعر الغزل والحب في العصور التالية :
1- الغزل في العصر الجاهلي .
2- الغزل في العصر الإسلامي والأموي .
3- الغزل في العصر العباسي .
4- الغزل في العصر الأندلسي .
الغزل في عصر النهضة .
ونبدأ بـــــــــــــــــ :
1- الغزل في العصر الجاهلي :جرى الحب في العصر الجاهلي مجرى الدم في الجسد، ذلك أنه كان والحرب يشكلان فضاء الحياة ونبضها، فيما كانت القصيدة إلا تجسيداً لها، وتعبيراً أسمى عن انغماس البدوي فيها إلى أبعد تفاصيلها .
والمرأة موضوع الحب، لم تكن في الشعر الجاهلي بمنأى عن موضوع الحرب، بل كانت شريكة للفارس العربي فيها، ولم يكن من الغريب ذهاب النساء إلى الحرب لإعطاء الفوارس حافزاً يجعل من الاستماتة مرادفاً للهوى .
يقول عمر بن كلثوم :
doPoem(0)
|
عـلـى آثـارنــا بـيــض كـــرامنحـاذرأن تفـارق أو تهـونـا |
أخذن على بعولتهن عهداًإذا لاقـوا فــوارس معلميـنـا |
|
أليس من تجليات الفروسية ذلك الحضور المتوهج للمرأة جسداً وروحاً في ثنايا القصيدة الجاهلية ... قصيدة امرئ القيس، أو طرفة أو عنترة أو الأعشى أو غيرهم ... ولا نرى أدل على ذلك التمازج بين تجربتي الحب والحرب من هذين البيتين لعنترة، مخاطباً حبيبته عبلة :
doPoem(0)
|
أحبـكِ يـا ظلـومُ فـأنـت عـنـديمكان الروح من جسد الجبان |
ولـو أنـي أقـول مكـان روحـيخشيـت علـيـك بــادرة الطـعـان |
|
وقد كان امرئ القيس رائداً لشعر المغامرات، بالغ في تصويره للمخاطر والعشق والحب :
doPoem(0)
|
سـمـوت إليـهـا بـعـدمـا نـــام أهـلـهـاسمو حباب الماء حـالاً علـى حـال |
فقالـت : سبـاك الله إنــك فاضـحـيألست ترى السمار والناس أحوالي |
فـقـلـت : يـمـيـن الله أبــــرح قــاعــداًوإن قطّعـوا رأسـي لديـك وأوصـالـي |
حـلـفــت لــهـــا بالله حـلــفــة فــاجـــرلناموا فما إن من حديث ولا صـال |
فلـمـا تنـازعـنـا الـحـديـث وأسـمـحـتهصرت بغصـن ذي شماريـخ ميـال |
وصرنا إلى الحسنـى ورقّ كلامهـاورضـــت فـذلــت صـعـبــة أي إذلال |
|
شرح المفردات :
الصالي : مصطلي النار
شماريخ : جمع شمروخ وهو غضن دقيق ينبت في أعلى الغصن الغليظ .